top of page

معركة سجن الصناعة.. غياب الدعم الدولي ينذر بانتعاش داعش مجدداً



اختر لغة لتنزيل الورق.


 
المقدمة.

منذ بدء العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بقيادة قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي أواخر العام 2014، اعتقل العديد من عناصر التنظيم مع تحرير كل مدينة وقرية، وبعد تحرير معظم الأراضي التي كان يحتلها التنظيم وتحديداً منذ السيطرة على بلدة الباغوز شرقي دير الزور، وصل عدد معتقلي التنظيم إلى الآلاف. وأمام ازدياد أعداد المعتقلين ورفض معظم الدول التي ينحدر منها مقاتلو التنظيم وخصوصاً الدول الأوروبية إعادتهم، وجدت قسد نفسها مضطرة للتعامل مع هذا الملف وتأمين أماكن احتجاز آمنة.


وقع الاختيار عام 2018 على مبنى المعهد الصناعي في حي غويران جنوبي مدينة الحسكة ليكون واحداً من أكبر مراكز احتجاز عناصر التنظيم نظراً لحصانته ومساحته وموقعه الذي يتوسط العديد من المقرات العسكرية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية. لكن هذا الأمر حوّل المبنى الذي كان مركزاً تعليمياً مهماً لطلاب المدينة إلى واحد من أخطر المباني في العالم، إذ نقل إليه معظم مقاتلي التنظيم ممن يحملون جنسيات عربية وأجنبية مثل العراق ومصر والجزائر وتونس والمغرب وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وكندا وروسيا وتركيا وفرنسا وهولندا… إلخ. ووفقاً للمعلومات التي كشفت عنها قيادة قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي وصل عدد المحتجزين في السجن إلى نحو 4380 شخصاً معظمهم من المقاتلين الأجانب (أمراء وأمنيين) ممن ينحدرون من 50 جنسية، إلا أن هذا العدد تقلص مؤخراً إلى نحو 3800 شخص بعد الهجوم الأخير على السجن، إذ وصل عدد القتلى المؤكدين من مسلحي التنظيم ممن شاركوا في الهجوم إلى 477 مسلحاً، بينما لا يزال مصير 103 من السجناء الفارين مجهولاً.


لم يكن سجن الصناعة المبنى الوحيد الذي نقل إليه عناصر التنظيم مثل (سجن الكم الصيني في الشدادي - سجن ديريك - سجن الرقة المركزي - سجن الكسرى في دير الزور)، لكن لا توجد إحصائيات رسمية مفصلة عن عدد المحتجزين في كل سجن من هذه السجون، إلا أن معظم المحتجزين متواجدون في سجني الصناعة والشدادي، بينما لا تتجاوز أعداد السجناء في السجون الأخرى المئات من أصل نحو 12 ألف معتقل ينحدرون من نحو 80 دولة، وفقاً لتصريحات قائد قوات سوريا الديمقراطية، الجنرال مظلوم عبدي لقناة العربية.


تسبب الهجوم على سجن الصناعة أواخر كانون الثاني / يناير الماضي بنزوح أكثر من 45 ألف مدني من سكان حيي الزهور وغويران جنوبي الحسكة باتجاه أحياء المدينة الآمنة، نقل البعض منهم إلى الجوامع ومراكز إيواء مؤقتة، بينما قصد قسم آخر منازل الأقرباء والأصدقاء والمعارف، ناهيك عن نقل قسم آخر إلى خيم عزاء كبيرة تم نصبها عبر مبادرات أهلية في إطار الجهود الرامية لإيواء النازحين الفارين من المعارك. لكن رغم كل تلك الجهود عانى النازحون من ظروف إنسانية صعبة خاصة في ظل انخفاض درجات الحرارة ونقص إمدادات وقود التدفئة، أما بالنسبة للبعض الآخر فقد تضاعفت مأساة النزوح للمرة الثانية، إذ تم إجلاء نحو 4 آلاف مهجر من سكان مدينة سري كانيه ممن كانوا يقيمون في مراكز إيواء مؤقتة (مدارس) في أحياء غويران والزهور والنشوة نحو مناطق أخرى آمنة.


محاولات هروب وتفاوض.

لم يكن الهجوم الأخير المحاولة الأولى التي لجأ إليها التنظيم لتحرير عناصره المحتجزين في سجن الصناعة، إذ بدأت أولى المحاولات عام 2019، عندما تم تفجير سيارة مفخخة قرب جدران السجن، لكنه لم يحدث الضرر اللازم لهروب السجناء، لتتوالى بعدها المحاولات، ففي آذار/ مارس عام 2020 نجح 25 سجيناً في تحطيم جدران سجن الصناعة والهروب عبر نفق أرضي، لكن قوات سوريا الديمقراطية تمكنت بعد ذلك بأيام من إلقاء القبض على الفارين أثناء محاولتهم الوصول إلى المناطق التي يحتلها الجيش التركي في سري كانيه. اعتبرت قسد والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية محاولة الهروب هذه ناقوس خطر فيما يتعلق بضعف تحصينات السجن وقدرته على احتواء هذه العدد الكبير من الإرهابيين، وعليه وضع التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية خطة لإنشاء سجن جديد محصن أمام هجمات السيارات المفخخة في نفس ساحة السجن القديمة، حيث بدأ العمل فيه نهاية العام 2020، ولا تزال عمليات تجهيزه وتحصينه مستمرة حتى الآن.


في 20 أيلول/ سبتمبر عام 2020، اعتقلت قسد محمد عبد العواد في مدينة الرقة، وهو أمير (كتيبة العاديات) التي أسسها التنظيم خصيصاً لاقتحام سجن الصناعة في الحسكة، والذي كشف في تسجيل مصور بثته صفحة المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية مخطط العملية بالكامل.


لم تقتصر عمليات عناصر داعش المحتجزين في السجن على محاولات الهروب وحسب، إذ نفذ المحتجزون ثلاث عمليات استعصاء حسب المعلومات التي قمنا بجمعها، وتنوعت مطالبهم خلالها بين تحسين نوعية الطعام، إلى المطالبة بترحيلهم والخضوع للمحاكمة في دولهم خاصة حملة الجنسيات الأوروبية، في محاولة للاستفادة من مزايا الأنظمة القضائية في تلك الدول.


وأمام هذا السيناريو يتبادر إلى الأذهان مرة أخرى السؤال عن كيف وأين يجب محاكمة عناصر داعش خصوصاً حملة الجنسيات الغربية؟ وضمان عدم استفادتهم من مزايا الأنظمة القضائية والسجون الأوروبية ومنعهم من العودة إلى ممارسة أنشطتهم الإرهابية؟

السيطرة على السجن الصناعة.

اعتقدت قوات سوريا الديمقراطية أنها باعتقال العقل المخطط لعملية اقتحام سجن الصناعة، محمد عبد العواد ومعظم أفراد (كتيبة العاديات) وخلية تفجير السيارات المفخخة المعدة للاقتحام، قد أجهضت العملية، لتتفاجئ يوم الخميس 20 كانون الثاني/يناير، الساعة الثامنة مساءً، بانفجار مفخخة أمام بوابة السجن، ما أدى لتشتيت الحراس، تزامناً مع إحراق 12 صهريج وقود في مركز سادكوب مقابل مبنى السجن، وبينما انشغل حراس السجن وقوات الأمن الداخلي بالانفجار الأول، انفجرت سيارة ثانية أمام بوابة السجن لتحدث خرقاً كبيراً عند البوابة الرئيسية والوحيدة ما مهد لاقتحام أكثر من 150 انغماسياً من خلايا داعش للسجن، ليقوم أحدهم بفتح بوابات السجن والمهاجع وإخراج السجناء، وتسليمهم أسلحة وذخائر كانت محملة في سيارة كبيرة ترافق المقتحمين أمام بوابة السجن نفسه.


تزامنت العملية مع تحرك لخلايا التنظيم داخل حيي الزهور وغويران، ما أسفر عن سقوط تسعة مجندين من قوات سوريا الديمقراطية كانوا في إجازات رسمية في منازلهم، إذ أظهرت المعلومات التي حصلنا عليها أن بعض أفراد خلايا داعش النائمة التي شاركت في الهجوم كانت تعيش في حي غويران وكانت تمتلك معلومات دقيقة عن هؤلاء المجندين وأماكن تواجدهم ليلة الهجوم.


قامت خلايا أخرى من التنظيم باستهداف دوريات المساندة القادمة لتطويق السجن، وبذات الوقت تمكن مسلحو التنظيم من الوصول إلى مبنى كلية الاقتصاد ومبنى معهد المراقبين الفنيين وصوامع غويران، بالإضافة إلى عدة نقاط عسكرية ضمنها مخزن (لوجستيك) ومخزن أسلحة في محيط السجن، وذلك بالتزامن مع سيطرة إرهابيي داعش على مبنى السجن بشكل شبه كامل إثر مقتل عدد من حراس السجن وأسر عدد آخر منهم.


من جانبها، بدأت قوات سوريا الديمقراطية بتطويق المنطقة من دوار الباسل حتى دوار البانوراما، بالإضافة لحيي الزهور وغويران بشكل كامل، مع إعلان حظر تجوال بعد فتح ممر آمن لخروج المدنيين باتجاه الأحياء الآمنة، لتدور معارك شرسة بمشاركة طيران التحالف الدولي على مدار 7 أيام متواصلة، قبل أن تنتهي بتراجع سجناء التنظيم إلى داخل مبنى السجن نفسه، وذلك إثر مقتل أكثر من 477 مسلحاً واستسلام أكثر من 3 آلاف منهم لقوات سوريا الديمقراطية. ومع تمكن قسد من فرض حصار على مبنى السجن دعا سجناء التنظيم إلى التفاوض، مطالبين بإعادة الكهرباء وتوفير الأدوية مقابل إطلاق سراح الأسرى، لكن تلك المفاوضات انتهت بالفشل بسبب عدم التزام مسلحي التنظيم بالاتفاق الذي تم مع قوات سوريا الديمقراطية التي بدأت بتضييق الخناق عليهم أكثر داخل مبنى السجن خصوصاً مع سيطرتها على ثمانية مهاجع. لتنتهي العملية يوم الأربعاء 26 كانون الثاني/يناير 2022 بالاستسلام غير المشروط لمسلحي التنظيم وفشل محاولة الهروب الجماعي من السجن، فيما لا يزال مصير نحو 103 عناصر من التنظيم مجهولاً، يعتقد أنهم تمكنوا من الهروب نحو مناطق البادية أو المناطق التي تحتلها تركيا وفصائل المعارضة السورية الموالية لأنقرة.


خلافات داخل التنظيم.

توقف نشاط داعش نهاية العام 2018، ليدخل التنظيم في مرحلة سبات ركز فيها جهوده على عمليات التخطيط والتجهيز لهجمات متنوعة، والتي تزامنت معظمها مع تصريحات وتهديدات من مسؤولين أتراك، فيما يبدو أنه استغلال للوضع السياسي والضغوط التي كانت تتعرض لها قوات سوريا الديمقراطية من قبل الأتراك والروس والنظام السوري، إذ يعتقد محللون عسكريون التقينا بهم أن التنظيم لن يتوقف عند هذه العملية، لأن الظروف الحالية تبدو مهيئة لعودة نشاطاته بشكل كامل. محذرين من أن المنطقة مقبلة على معارك شرسة خصوصاً وأن 103 عناصر من مسلحي التنظيم لا يزالون مجهولي المصير ومعظمهم من خبراء التفجيرات ومن المخططين والأمراء القياديين في التنظيم.


رغم أن العملية أظهرت التنظيم بمظهر القوي والمتماسك إلا أن بعض السجناء الذين استسلموا في أول يومين من الحصار أكدوا أن المعركة فرضت على قسم كبير من السجناء، وقيل أن عناصر التنظيم من العراقيين هم من أداروا العملية برمتها، لذلك استسلم عدد كبير من المقاتلين مع وصول قوات سوريا الديمقراطية وبدء القصف الجوي للتحالف الدولي خصوصاً بعد فشل عملية الهروب خارج محيط السجن، ويبدو من خلال هذه المعلومات أنه لا توجد أدلة تدحض عدم وجود خلافات كبيرة بين عناصر التنظيم المنحدرين من جنسيات مختلفة في ظل انفراد العناصر العراقية بقيادة التنظيم.


تعود سيطرة العناصر العراقية على التنظيم إلى لحظة التأسيس التي بدأت في العراق، إذ حمل التنظيم اسم (الدولة الإسلامية في العراق) قبل أن يتغير الاسم إلى (الدولة الإسلامية في العراق والشام) مع انتقال نشاط التنظيم إلى سوريا في سنوات مبكرة من الصراع، ثم اعتمد التنظيم تسمية (الدولة الإسلامية) لإعطائه بعداً عالمياً. هذا ويتبنى معظم عناصر التنظيم العراقيين أفكار أبو مصعب الزرقاوي الذي كان يعتبر من أكثر قادة تنظيم القاعدة تشدداً، بينما يتبنى معظم عناصر التنظيم المغاربة والخليجيين أفكار زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن وخلفه أيمن الظواهري، بالإضافة إلى منظر السلفية الجهادية عبد الله عزام.


وعلى ما يبدو أن عناصر التنظيم من غير السوريين وغير العراقيين قد أصابهم التعب والإرهاق بعد فشل مشروع الدولة الإسلامية، كما أن البعد الجغرافي لعب دوراً كبيراً في عدم تأقلمهم مع المحيط على عكس السوريين والعراقيين الذين لا يواجهون مشاكل في التأقلم أو في اختلاف اللهجات.


أظهرت العملية الأخيرة والاستعصاءات التي سبقتها في سجن الصناعة خلافاً آخر بين عناصر التنظيم، متعلق بالأدوات والأساليب التي اعتمدت كوسائل للخروج من السجن، إذ أظهر عناصر التنظيم ممن يحملون الجنسيات الغربية ميلاً واضحاً للمطالبة بمحاكمات عادلة في دولهم الأصلية للاستفادة من مزايا الأنظمة القضائية التي ألغت عقوبة الإعدام، ناهيك عن الاستفادة من ظروف وشروط ما يمكن تسميته برفاهية السجون في تلك البلدان كما ذكرنا سابقاً.



اختراق أمني.

أظهرت عملية اقتحام سجن الصناعة أن داعش خطط لها بدقة وبقيادة مركزية وبدعم مالي كبير، وهو ما أكده الجنرال مظلوم عبدي، قائد قوات قسد في مقابلته مع قناة العربية. ويوضح تزامن الهجمات المتعددة وتنظيمها قوة التنسيق بين خلايا داعش خارج السجن وداخله، وهو ما يؤكد وجود اختراق أمني في صفوف حراس السجن، إذ تفيد المعلومات التي جمعناها أن جهاز الاستخبارات في قوات سوريا الديمقراطية قام باعتقال معاون قائد السجن الملقب بـ (تريكس)، لقيامه بتقديم تسهيلات لعناصر داعش المحتجزين، تضمنت حصول بعضهم على أجهزة اتصال مقابل مبالغ مالية كبيرة. وبعد التدقيق تم اكتشاف أن والد معاون قائد السجن كان منتمياً للتنظيم وقتل سابقاً خلال عملية أمنية لقوات سوريا الديمقراطية في ريف دير الزور، وهو ما يؤكد وجود اختراق أمني وفشل على مستوى دراسة وتدقيق الملفات الأمنية للحراس المختصين بتأمين السجون.


كما أن وصول العشرات من مسلحي التنظيم ومعظمهم من جنسيات عربية إلى حيي الزهور وغويران واجتيازهم الحواجز الأمنية التابعة لقسد في محيط الحسكة، يشير إلى احتمالية وجود اختراق أمني في تلك الحواجز، ناهيك عن احتمالية حصول عناصر التنظيم على مساعدة من الحواجز الأمنية التابعة للقوات الحكومية وتلك التابعة للجيش الوطني الموالي للجيش التركي.

ولكن كيف استطاعت داعش تنفيذ الهجوم بعد قرابة شهر من اعتقال عبد العواد وقسم من خلايا داعش وتفكيك تجهيزات عملية الاقتحام؟

هناك احتمالان يتم تداولهما؛ الأول يقول بإنهاء قوات التحالف وقوات سوريا الديمقراطية التحقيق في العملية بعد اعتقال محمد عبد العواد وأفراد خلية (كتيبة العاديات)، لذلك لجأ داعش إلى عنصر المفاجئة وقام بتنفيذ الهجوم بنفس الآليات والأدوات وهذا مؤشر خطير على إمكانيات داعش العسكرية والمالية واللوجستية، إذ ليس من السهل تأمين كل هذه الأسلحة والمواد المتفجرة بعد شهر من إحباط العملية. الثاني يقول إن التنظيم عمد إلى تسليم محمد عبد العواد ليكون بمثابة طعم لقوات التحالف وقوات سوريا الديمقراطية، واكتشاف إجراءات الطوارئ ومدى استعداد حراس السجن لمثل هذا الهجوم.



مسببات الخلل الأمني:

١. خلل الإجراءات الأمنية.

من الواضح أن الإجراءات الأمنية المتبعة غير كافية للسيطرة على تنظيم قوي كتنظيم داعش في ظل انتشار خلاياه في معظم دول المنطقة، فرغم الحجم والموقع الاستراتيجي لسجن الصناعة الذي يتوسط عدد من المقرات الأمنية لقسد، إلا أنه يقع على طريق رئيسي بالقرب من مناطق سكنية، ومن الواضح أن قسد تعاني من نقص في الأدوات والمعدات الأمنية المستخدمة في تأمين مثل هذه السجون ككاميرات وأدوات المراقبة وغيرها من الوسائل والتقنيات الحديثة.


٢. غياب استراتيجية استقرار شاملة.

إن إصرار الولايات المتحدة على اقتصار الشراكة مع قوات سوريا الديمقراطية على شقها العسكري وربطها بتهديدات واحتمالات عودة تنظيم داعش، يؤثر على القوات المحلية التي تشعر بالتهديد المستمر، لإدراكها أن الشراكة العسكرية قد تنتهي بمجرد انتهاء خطر عودة التنظيم، خصوصاً وأن المخاطر التي تواجهها القوات المحلية متعددة وفي مقدمتها التهديدات التركية، ناهيك عن تهديدات روسيا وإيران. وعليه يتوجب على الولايات المتحدة عدم حصر المخاطر الأمنية التي تواجهها المنطقة بتهديدات تنظيم داعش وحسب، فما سببته تركيا وفصائل الجيش الوطني الموالية لها من خراب ودمار وتهجير وتغيير ديمغرافي لا يقل بشاعة عن انتهاكات التنظيم.


ومن أجل معالجة تهديدات داعش الإرهابية وضمان عدم عودة التنظيم تحتاج المنطقة إلى استقرار سياسي واقتصادي حقيقي، وإلى مؤسسات حكم متعددة مدنية وعسكرية.


٣. تعدد مناطق السيطرة.

توزيع مناطق السيطرة بين كل من الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، يجعل من المستحيل إيجاد آليات أمنية متناسقة رغم الاتفاقيات الثنائية والثلاثية التي عقدت بين هذه الأطراف، إلا إن كل منطقة لديها سياساتها وإجراءاتها الأمنية المختلفة وفق اختلاف شكل نظام الحكم المحلي. وهو ما يستغله داعش بشكل فعال، إذ يلجأ لاستثمار الثغرات الأمنية بين مناطق النفوذ، والخلافات الإقليمية والدولية بين أطراف الصراع على الأراضي السورية، ولا يمكن استبعاد لجوء بعض الأطراف إلى استخدام داعش أو على الأقل غض النظر عن عملياته ضد خصومها كما فعلت روسيا أثناء هجوم داعش على سجن الصناعة.


٤. الظروف الاقتصادية.

الأوضاع الاقتصادية التي تشهدها مناطق شمال شرقي سوريا كنتيجة مباشرة لآثار الحرب، بالإضافة إلى ظروف الجفاف التي تشهدها المنطقة والحصار الجزئي نتيجة إغلاق المعابر الحدودية، تساهم بشكل مباشر في إضعاف الإجراءات الأمنية وهو ما يؤدي إلى زعزعة الاستقرار المجتمعي وزيادة الفجوة بين السلطات المحلية والمواطنين، الأمر الذي يسهل لداعش شراء الولاءات.


٥. روسيا والحكومة السورية.

التواجد الروسي والحكومي في شمال شرقي سوريا محدود ومتمركز في مدينة دير الزور والمربعين الأمنيين في مدينتي الحسكة والقامشلي بشكل أساسي، ورغم محدودية هذا الانتشار إلا أنه ذو أهمية استراتيجية، إذ يمنح الطرفين قدرة أكبر على استغلال أي فرصة لإضعاف قوات التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية. ففي الوقت الذي كان سكان الحسكة يعيشون وسط معارك دامية خلال هجوم السجن، كانت الحكومة السورية تلعب على وتر تأجيج الصراع القومي ومحاولة إظهار الهجوم وكأنه مخطط لتهجير سكان حيي الزهور وغويران ومعظمهم من العرب. في حين استغلت روسيا الحدث لمهاجمة الولايات المتحدة ودورها في المنطقة خلال جلسات مجلس الأمن الدولي. لذلك فإن انتشار الحواجز الأمنية التابعة للحكومة السورية المدعومة من روسيا في مناطق مهمة حول المدن وداخلها يشكل ثغرة أمنية كبيرة، يمكن أن يستغلها داعش كنقاط عبور نحو مناطق نفوذ التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية.


٦. وجود مناطق رخوة أمنياً.

مما لا شك فيه أن الغزو العسكري التركي عملية (نبع السلام) ساهم في تقويض الأمن بشكل كبير، خاصة فيما يتعلق بمحاربة تنظيم داعش وسبب عموماً خللاً أمنياً كبيراً في المنطقة، إذ قوض الغزو قدرات قسد في محاربة داعش وإحكام سيطرتها الأمنية على السجون ومراكز الاحتجاز.


ولكن أهم ميزة حصل عليها تنظيم داعش بعد الغزو التركي هي ظهور مناطق رخوة أمنياً يمكن استخدامها من أجل التخطيط لنشاطاته التي تستهدف قسد ومن ثم اتخاذها ملجأً لعناصره، فالتواجد العسكري التركي مدعوماً بفصائل الجيش الوطني مرتبط بمحاربة قسد، لذلك من المنطقي أن تلجأ أنقرة إلى استخدام داعش لضرب قسد في عمق مناطق نفوذ التحالف الدولي إما بشكل مباشر أو عبر تسهيل عمليات عبور المقاتلين، ناهيك عن أن مناطق النفوذ التركية وفرت بيئة اجتماعية مناسبة لإقامة عناصر التنظيم على اختلاف جنسياتهم.


تدعم مؤشرات مختلفة هذا الاعتقاد بوجود تنسيق بين الفصائل الموالية لتركيا وبين هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) من جهة، وبين تنظيم داعش من جهة أخرى، من تلك المؤشرات سلسلة من التقارير التي كشفت عن تواجد قيادات من تنظيم داعش في سري كانيه وإدلب. وأخرها كانت العملية الأمنية الأمريكية في 3 شباط/فبراير التي أسفرت عن مقتل خليفة أبو بكر البغدادي (القرداشي) في مخبئه الواقع في بلدة أطمة على بعد عدّة مئات من الأمتار من الحدود التركية وعلى مقربة من إحدى النقاط العسكرية التركية داخل الحدود السورية، وهو نفس المكان الذي قتل فيه أبو بكر البغدادي في 27 تشرين الأول/أكتوبر عام 2019.


أضف إلى ذلك، كثفت تركيا خلال الفترة الماضية من عمليات استهداف قيادات من قسد باستخدام الطائرات المسيّرة، ناهيك عن عمليات القصف التي تستهدف مواقع قسد في نقاط التماس مع المناطق المحتلة، الأمر الذي يقوض أو يضعف من قدرات قسد في مواجهة تنظيم داعش.


٧. آليات الحل المحلية

تلعب الآليات المحلية في حل النزاعات دوراً إيجابياً في الصراعات المسلحة وما بعدها، لكن يبدو أن هذه الآليات لم تكن مفيدة في التعامل مع تنظيم داعش، إذ لعبت الوساطات العشائرية دوراً كبيراً في إطلاق سراح مقاتلي التنظيم من السوريين دون أي محاكمة أو أعادة تأهيل في ظل محدودية الإمكانيات. فقد أفرجت قسد في آذار / مارس 2018 عن 15 سجيناً من عناصر التنظيم، وفي آيار/مايو 2019 أفرجت عن 43 سجيناً، تبعها في ذات الشهر الإفراج عن 89 سجيناً، وفي الثاني من آذار/مارس عام 2019 أفرجت قسد عن 280 سجيناً، بينما أطلقت سراح 300 سجين في الثامن من كانون الثاني/ يناير عام 2020. هذه عينة من الأرقام التي تمكنا من الوصول إليها، إلا أن الأرقام الحقيقة أكبر من ذلك بكثير، لذلك يرى محللون عسكريون أن نسبة كبيرة من هؤلاء المفرج عنهم لا يزالون منتمين إلى التنظيم، أو متعاطفون معه في أفضل الأحوال.


٨. أشبال الخلافة

أطفال أبناء مقاتلي داعش ممن يعيشون في مخيمات مثل الهول، اقتربوا من بلوغ الـ 18 من عمرهم، وهو ما يتطلب التعامل معهم كبالغين واتخاذ إجراءات احترازية إضافية. إذ تشير الأرقام إلى إن عدد المراهقين القادرين على القتال من أبناء مقاتلي التنظيم سيصل إلى نحو 17 ألف خلال عامين أو ثلاثة أعوام، وهو رقم مهول، وقد يحوّل هؤلاء المراهقين إلى قنابل موقوتة تهدد الاستقرار والأمن الدولي.


٩. الصراع في أوكرانيا

تنبئ التوترات على الحدود الأوكرانية بإمكانية حدوث غزو روسي، وهذا من شأنه أن يشعل فتيل الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، ومن المتوقع أن تصل تداعيات هذا التوتر إلى شمال شرقي سوريا حيث تنتشر قوات أمريكية وروسية، وهو ما سيكون له تأثير مباشر على عودة نشاطات تنظيم داعش، وربما يمثل فرصة لتركيا والفصائل الموالية لها من أجل توسيع مناطق نفوذها على حساب قوات سوريا الديمقراطية.



التوصيات.
  1. يجب إيجاد حل لموقع السجن، إما بنقله أو إغلاق الطرق حوله، ولكن هذه حلول مؤقتة ويجب العمل على إيجاد بدائل استراتيجية، منها بناء سجون خارج المدن ذات تحصينات قوية ومتطورة.

  2. بناء قوة خاصة بحماية السجون تكون مدربة تدريباً خاصاً، مع توفير تدقيق أمني صارم لمنتسبيها خاصة في ظل المعلومات التي تتحدث عن وجود خرق أمني واشتراك البعض من أفراد الحرس في تسهيل الهجوم على سجن الصناعة.

  3. لم تصل الولايات المتحدة بعد إلى قناعة بعدم إمكانية تحسين الوضع الأمني بدون توفير استقرار اقتصادي وسياسي، وهو ما يتطلب الاعتراف السياسي بالإدارة الذاتية ودعمها اقتصادياً ودفع الأطراف الكردية لإيجاد حلول لمشاكلها، فالاستقرار السياسي الداخلي هو خط الدفاع الأول في وجه التهديدات الأمنية.

  4. دور التحالف الدولي ينحصر في الدعم الجوي وهو دعم مؤقت ولن يصل بالمنطقة إلى أي استقرار أمني دائم، لذلك على التحالف الاعتراف بالإدارة الذاتية سياسياً ودعمها عسكرياً عبر تأمين الأسلحة والتقنيات اللازمة لمواجهة التهديدات والضغوط من مختلف الأطراف وعلى رأسها تنظيم داعش.

  5. عدد السجناء كبير جداً ويفوق قدرات قوات سوريا الديمقراطية، لذلك يجب على الدول وخاصة الغربية منها استعادة رعاياها من عناصر داعش ومحاكتهم. كما عليها دعم قسد لإنشاء سجون محصنة وتجهيزها بالأدوات والمعدات المتطورة التي تمكنها من السيطرة على مراكز الاحتجاز، بالإضافة لدعم الاستقرار السياسي والاقتصادي في شمال شرقي سوريا.

  6. يجب على قسد والإدارة الذاتية تطبيق القانون ومحاكمة مقاتلي التنظيم من الجنسية السورية وعدم قبول الوساطات العشائرية، باعتبارهم متهمين بارتكاب جرائم جسيمة تستوجب الجزاء. وحتى تتمكن الإدارة الذاتية من إجراء محاكمات عادلة لابد من إنشاء محاكم محلية، مع ضمان الحصول على دعم من التحالف الدولي والمجتمع الدولي لبناء نظام قضائي نزيه ومستقل قادر على إجراء هذه المحاكمات، وربط هذه العملية بالاستقرار السياسي والاقتصادي.

  7. على المجتمع الدولي والأمم المتحدة العمل بشكل جدي لمعالجة مشكلة مخيم الهول أكبر مخيمات شمال شرقي سوريا، والضغط على الدول لاستعادة رعاياها من النساء والأطفال، إذ يعتبر المخيم حالياً بمثابة قنبلة موقوتة قد يتسبب بفوضى أمنية عارمة في دول المنطقة في حال لم يتم حسم الموضوع ومعالجته بشكل جدي وفعال.


 

المصادر:

  • سجينان من عناصر تنظيم داعش في سجن الصناعة.

  • ثلاثة قادة من قوات سوريا الديمقراطية ممن شاركوا في معركة سجن الصناعة.

  • اثنان من شهود العيان من النازحين من حيي غويران والزهور.

  • مقاتل من لواء حماية السجون من المشاركين في معركة سجن الصناعة.

  • محللان عسكريان من المراقبين لهجوم سجن الصناعة والأحداث التي سبقت ولحقت الهجوم.

  • قياديان من قوى الأمن الداخلي (الآسايش) من المشاركين في تأمين محيط سجن الصناعة أثناء الهجوم.



Comments


bottom of page