تشهد مدينة السويداء منذ ١٧ أغسطس حركة احتجاجات شعبية واسعة، تُعَتبَر الأكبر على صعيد المحافظة منذ بداية حركة الاحتجاجات السورية عام ٢٠١١. وقد شهدت هذه الحركة تطورًا تدريجيًا، حيث اتسعت نطاق المطالب لتشمل مطالب سياسية أبرزها الدعوة إلى رحيل نظام الأسد وتنفيذ القرار رقم ٢٢٥٤ الصادر عن مجلس الأمن الدولي. كما تم وجه مسؤولية كبيرة للسلطات السياسية على ما آلت إليه الأوضاع في البلاد، والتي شهدت تدهورًا في الأوضاع المعيشية، والإنسانية، والأمنية، والخدمية. هذه التطورات تنذر بكارثة إنسانية في حال عدم اتخاذ إجراءات فعّالة للتصدي لها. هذه الاحتجاجات تشير إلى تزايد الضغوط الاجتماعية والسياسية داخل محافظة السويداء.
ومنذ بدء الاحتجاجات على مستوى البلاد في عام 2011، وُصفت السويداء بأنها بقيت مقاطعة لها، رغم محاولة بعض النخب المثقفة من فئة الشباب وبعض المعارضين المنتمين للطائفة الدرزية الانخراط فيها. إلا أنه وفي الوقت ذاته، لم يحظَ هذا الحراك بتأييد شعبي واسع، فغالبًا ما كان يقتصر على عشرات الناشطين والمئات في بضع مناسبات. يرجع ذلك إلى عدة عوامل، بعضها مرتبط بطبيعة مسار الاحتجاجات السورية (العنف المسلح وأسلمة الثورة)، في حين ترتبط العوامل الأخرى باستخدام الحكومة آليات السيطرة الاجتماعية التي طورتها وأتقنتها على مدى العقود الماضية.
كما لم يشفع لها موقف الحياد الذي اتخذته إزاء الحرب السورية، والذي تمثل برفض إرسال أبنائها للقتال في جيش الحكومة السورية. إذ أنها لم تبق في منأى عن المعارك والاشتباكات في أكثر من مناسبة خلال فترة الصراع والتي كان أعنفها ما يطلق عليه "الأربعاء الدامي"، بعد تعرض السويداء إلى هجوم دامٍ لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في 25 يوليو 2018، أسفر عن أكثر من 250 قتيلاً، وقيام التنظيم بخطف 36 مدنياً بينهم نساء وأطفال. تولى أهالي المحافظة والفصائل المحلية مهمة التصدي للهجوم وسط غياب تام للجيش السوري والقوات الأمنية. علاوة على ذلك، فإن المحافظة تعيش تحت وطأة فلتان أمني وفوضى السلاح وانتشار للجريمة والمخدرات في ظل تراجع كبير لدور الدولة الحمائية، وعجز شبه تام للحكومة عن توفير حلول لتردي الأوضاع المعيشية والإنسانية. تجدر الإشارة إلى أن عدم انجرار المحافظة إلى العنف ساعدت على النهوض بالوعي السياسي لأبناء وبنات المحافظة والتي شهدت حركة عمل مدني مميزة خلال السنوات الماضية."
تهدف هذه المقالة إلى التعمق في الأسباب والأهداف والتكتيكات التي تميز هذه الاحتجاجات، فضلاً عن مناقشة تأثيرها (المحتمل) وما يجب القيام به على المستوى الوطني والدولي. ستظهر حجتان رئيسيتان في المقدمة: أولاً، الاعتقاد بأن الاحتجاجات الحالية قد تساهم في تحول المشهد السياسي وتعزيز أدوار المواطنين ويضغط على السلطات لتغيير سياساتها. ثانيا، الإصرار على أن يأخذ أصحاب المصلحة الوطنيون والدوليون هذه المطالب المشروعة للمدنيين على محمل الجد وأن يتصرفوا بسرعة لتحسين الظروف المعيشية وإعطاء المدنيين فرصة للعيش بكرامة.
الأسباب
تعزو أسباب هذه الحركة إلى عوامل متعددة وتعتبر البطالة وسوء الأوضاع الاقتصادية وانعدام الشفافية، وتفاقم الفساد، وغياب المشاركة السياسية عوامل رئيسية فيها.
الوضع الاقتصادي المتردي والسياسات والإجراءات الحكومية المحبطة: حيث يواجه سكان السويداء أسوأ واقع معيشي في تاريخهم، مع تصاعد التضخم وتهاوي قيمة صرف الليرة السورية، وخسارة الليرة السورية أكثر من 99% من قيمتها، حيث وصل سعر الصرف حتى تاريخ إعداد هذه الورقة إلى أكثر من 15000 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد (علماً أنه في عام 2011، كان 48 ليرة مقابل الدولار). ووصلت نسبة التضخم إلى أكثر من 4000% وارتفعت الأسعار ما يقارب من 60 ضعفًا. في ظل انتشار البطالة وضعف فرص العمل، فقد تفاقمت الأوضاع المعيشية نتيجة ارتفاع تكاليف المعيشة وانخفاض الدخل الحقيقي للمواطنين، وانتشار الفقر بشكل كبير ووصوله إلى مستويات قياسية بالشكل الذي فاق قدرة الناس على تحمله.
لتأتي القرارات الحكومية السورية الأخيرة المتمثلة برفع الدعم عن عدد من المواد الغذائية الأساسية المدعومة، وزيادة أسعار المحروقات بنسبة 250% بذريعة تحقيق وفرة مالية تمكنها من زيادة رواتب الموظفين في القطاع العام تمثلت بإصدار رئيس النظام السوري بشار الأسد مرسومين بتاريخ 15 آب/أغسطس 2023، زاد بموجبهما الرواتب بنسبة 100%. إلا أن القدرة الشرائية للمواطن السوري ازدادت ضعفاً، وأصبحت في أدنى مستوياتها، بسبب التضخم وارتفاع الأسعار، إذ بلغ متوسط الرواتب بعد الزيادة 13 دولار أمريكي، أي ما يعادل 40 سنت في اليوم للأسرة الواحدة التي تتألف وسطياً من خمسة أفراد.
استشراء الفساد والمحسوبيات: في القطاع الحكومي والخاص وانتشار الاتجار والنهب على الحواجز وفي الداخل، سبب في تشويه مناخ الاستثمار الوطني والأجنبي وقلل من الثقة في النظام السياسي، وأثر سلبًا على النمو الاقتصادي وزاد من البطالة والفقر في السويداء. بالإضافة إلى ذلك، ساهم في تراجع جودة الخدمات العامة مثل التعليم والصحة والبنية التحتية فيها، باختصار، يمكن القول إن استشراء الفساد والمحسوبيات في عموم سوريا عامة وفي السويداء خاصة شكل عاملاً مهمًا في زيادة التوترات الاجتماعية وانطلاق الاحتجاجات.
الوضع السياسي: في البلاد زاد من غضب الشارع في السويداء بعد الاستعصاء الذي تشهده العملية السياسية والتي تم اختزالها بلجنة دستورية معطلة وأفشال الحكومة السورية لجميع مبادرات الحل السياسي وآخرها المبادرة العربية "خطوة بخطوة" علاوة على تصريحات الرئيس السوري في مقابلته مع سكاي نيوز العربية والتي جاءت مخيبة لآمال السوريين /ات ببدء الانفراج فضلا عن التخلي الواضح للسلطة عن التزاماتها، سيما أن السكان يشعرون بعدم وجود قنوات كافية للتعبير عن آرائهم والمشاركة في صنع القرار السياسي منذ استلام عائلة الأسد الحكم.
أهداف هذا الحراك
بناءً على الأسباب المذكورة أعلاه، يمكن تلخيص أهداف الحركة في أربعة مطالب. أولا، الاستجابة الفورية لتحسين الواقع المعيشي بشكل جذري وليس جزئيًا أو ترقيعيًا، وتوفير فرص عمل مستدامة وتعزيز التنمية المحلية لتحسين معيشة السكان. ثانيًا، المزيد من الشفافية في الحكومة ومؤسسات الدولة، والمزيد من الجهود لمكافحة الفساد على جميع الجبهات. ثالثا، توزيع أكثر عدلا للثروة والفرص داخل المجتمع. يتضمن ذلك تحسين البنية التحتية والرعاية الصحية وتحسين التعليم. رابعا، التغيير السياسي. وهذا يعني رحيل النظام السوري، وتنفيذ قرار الأمم المتحدة 2254، والكشف عن مصير المعتقلين والمختفين، وإنهاء الاحتلال التركي في شمال سوريا.
خصائص
بشكل عام، يمكن وصف الاحتجاجات بأنها سلمية وشاملة. شاركت جميع الفئات الاجتماعية في السويداء، بما في ذلك البدو وأنصار الحكومة السورية. كما يتم دعم الاحتجاجات من قبل الزعيم الروحي الطائفة الدرزية الشيخ حكمت الهجري وكذلك من قبل القادة الاجتماعيين والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني. علاوة على ذلك، شاركت العديد من النساء بشكل ملفت وفعال. تم استخدام منصات التواصل الاجتماعي بشكل خاص لنشر الرسائل وتنظيم الأحداث ونشر الأخبار ومكافحة الاتهامات التي وجهها كل من النظام والقوى الإسلامية المتطرفة في مناطق المعارضة.
التأثير
على الرغم من أن بعض المراقبين يصورون الاحتجاجات على أنها مؤقتة أو محدودة النطاق، يجد آخرون أن حجم وطبيعة الحركة الحالية كانا مختلفين عن جميع الحركات السابقة. فقد سجلت شبكة السويداء 24 أكثر من 42 نقطة احتجاج في مدن وقرى المحافظة. هذا رقم فريد لمقاطعة وصفت بنها محايدة إلى حد ما خلال العقد الماضي. حيث تعكس الاحتجاجات في السويداء، الواقع المتدهور في جميع قطاعات الحياة في جميع أنحاء سوريا. إنهم يجسدون المطالب العادلة للشعب السوري، ويدعون إلى حياة كريمة.
من جهة أخرى، تأثير الحركة لم يقتصر فقط على السويداء، بل تجاوز ذلك إلى مناطق أخرى داخل سوريا. فالتضامن مع الاحتجاجات في المدينة أثر على مختلف المجتمعات المحلية، وأعطى دفعًا للأفراد في مناطق أخرى للتعبير عن مطالبهم على الرغم من أنها اقتصرت فقط على المطالبة برحيل الأسد، وتجاهلت قمع السلطات المحلية لهم مثل جبهة تحرير الشام وفصائل الجيش الوطني. ورغم ذلك، تساهم تلك الأحداث في تشكيل مشهد سياسي متغير يقوي دور المواطن ويضع ضغطًا على السلطات المحلية للاستماع والاستجابة. يبقى أن نرى إلى أي مدى يمكن أن تنجح هذه الاحتجاجات في جلب جميع الأطراف ذات الصلة إلى طاولة المفاوضات من أجل تنفيذ القرار 2254 وبدء الانتقال السياسي.
تظهر سلسلة من التخوفات مرتبطة بحدوث هجوم خرق من الجماعات الخارجة عن القانون، أو داعش في بعض المناطق المحيطة بالمحافظة من تلقاء نفسها أو بالتحريض من قبل النظام. وتعمق النزاع الداخلي الموجود أصلاً وبالتالي حدوث فوضى وصدامات لا تحمد عقباها، نتيجة الانقسامات في الشارع. وفي السياق ذاته هناك تخوف من إغلاق الطريق الواصل بين دمشق والسويداء وبالتالي قطع شريان الحياة بالنسبة للمحافظة. واستغلال بعض الشخصيات العسكرية للوضع لتقوم بتشكيل مجلس عسكري وتحويل الاحتجاجات إلى عمل عسكري.
ومع ذلك، فإن تفن مقتنع بأن هذه الاحتجاجات على مستوى البلاد تؤدي إلى زيادة الوعي السياسي بين السكان. وقد اتضح ذلك من خلال عدة مطالب، أبرزها الدعوة إلى انتقال سياسي شامل وفقًا لقرار الأمم المتحدة 2254. ورفض الحكومة العسكرية ووجود الميليشيات في المناطق المتنازع عليها، وكذلك الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة. بالإضافة إلى ذلك، يرى تفن أن حقيقة تضامن المواطنين من جميع المناطق في البلاد مع بعضهم البعض، يدل على أن التعاون والحوار بين المواطنين في مختلف المقاطعات ينبغي أن يستمر ويتم تعزيزه.
أخيرًا، يعتقد تفن أن حركة الاحتجاج هذه قد تكون بمثابة نموذج يمكن استخدامه لفهم القضايا الاجتماعية والسياسية في الشرق الأوسط بشكل أفضل، حيث إن المطالب والتحديات من الناس والتحديات التي يواجهونها في السويداء وسوريا غالبًا ما تكون مماثلة للمجتمعات الأخرى في المنطقة الأوسع
الاستنتاج
هدفت هذه الورقة إلى تحليل الوضع الحالي في السويداء وسوريا من خلال شرح أسباب ودوافع الاحتجاجات أولاً. ثم تعمقت هذه الورقة في الأسباب والتكتيكات المستخدمة. وأخيراً، تناولت هذه الورقة تأثيرها (المحتمل). بناءً على ملاحظات تفن والحجج التي تم تناولها في هذه الورقة، يحث تفن الحكومة السوريا على أخذ هذه المطالب المشروعة للمدنيين على محمل الجد والعمل بسرعة لتحسين الظروف المعيشية وإعطاء المدنيين فرصة للعيش بكرامة.
على المستوى الدولي، يجب على الأمم المتحدة وروسيا بشكل خاص الضغط على الحكومة السورية للاستجابة لمطالب الشعب السوري والعمل على تنفيذ قرار الأمم المتحدة 2254، والتسريع في تشكيل هيئة حكم انتقالية تؤدي إلى انتقال سياسي حقيقي في سوريا. ويجب أن تكون الحكومات الدولية مستعدة للمشاركة البناءة في هذه الحركات لإحداث تغييرات إيجابية في المجتمعات المحلية. يجب أن يواصلوا جهودهم لفهم أهداف وتكتيكات وتأثير المحتجات\المحتجين. وبهذه الطريقة فقط يمكن لصانعي السياسات والقرارات تلبية مطالب المواطنين والمساهمة في مستقبل أفضل للجميع.
في محافظة السويداء وبالنظر إلى الظروف الصعبة التي تمر بها كمنطقة حدودية، حيث تشهد انعدامًا للأمن ونشاطًا للخلايا الإرهابية، ومع وجود تعقيدات سياسية تثير مخاوف الدول العربية والمجتمع الدولي من موجات لجوء جديدة، ومع تفكك الرؤى والأجندة السياسية بين مجموعة متنوعة من الأطراف المؤيدة لدولة دينية أو دولة مدنية علمانية، وبين داعين للمركزية وآخرين يؤيدون اللامركزية، يبقى السؤال حول كيف يمكن لهذا الحراك أن يجمع جميع هذه الأطراف على طاولة واحدة بهدف تطبيق القرار 2254 وبدء عملية انتقال سياسي، في ضلل عدم وجود قيادة موحدة للحراك.
أخيراً: حركة الاحتجاج في السويداء تجسد تطلعات السكان نحو تحقيق تغيير إيجابي. من خلال تحديد أهدافها وتبني تكتيكات سلمية، أثرت هذه الحركة بشكل إيجابي على الوعي السياسي والمشهد السياسي في المدينة. تعكس الاستنتاجات الحاجة إلى تلبية مطالب المحتجين في الانتقال سياسي حقيقي وتعزيز الديمقراطية والشفافية وتحسين الأوضاع الاقتصادية وإزالة كافة اثار الاستبداد.
Comments